منذ أن انتهت أول مباراة لأول منتخب مصري بالفوز على الإنجليز عام 1895 .. تغيرت تماما وإلى الأبد علاقة المصريين بكرة القدم .. تغيرت المفاهيم والقواعد والمشاعر وكل الحسابات والمعانى .. وإلى حد أنه يمكن .. دونى أى قدر من المبالغة .. اعتبار هذه المباراة بمثابة الكلمة الأولى فى الصفحة الأولى من كتاب تاريخ الكرة المصرية.
ليس فقط لأنها كانت أول مباراة شبه رسمية جرى الاتفاق عليها والاستعداد لها بعيدا عن تلك اللقاءات التي كانت تشهدها معسكرات الجيش الإنجليزى حيث كان يقف الأولاد المصريون لا يملكون إلا حق الفرجة من بعيد .. أو تلك المغامرات التى بدأت تشهدها الحوارى والميادين على سبيل التجربة والاكتشاف .. ولا لأنها أول مرة يشهد فيها مصريون منتخبا منهم ويلعب بإسمهم .. أو المرة الأولى التي يلعب فيها المصريون أمام الإنجليز الذين تعلموا منهم كيف يلعبون الكرة .. وإنما اكتسبت هذه المباراة مكانة وأهمية أشد عمقا من ذلك.
وعلى الأرجح لم يتخيل محمد أفندى ناشد أنه حين أتم الاتفاق على إقامة هذه المباراة وحين اختار الذين سيلعبون بجواره فى هذا التيم المصرى .. وحين فاز التيم المصرى على الإنجليز .. كان يبدأ تاريخ وحكاية مصر مع كرة القدم .. وقد ظلمنا محمد أفندى ناشد حيا وميتا .. لم يهتم أحد بصانع هذا الانتصار وهذا الانجاز .. تركناه يعيش وحده ويموت فى هدوء منسيا ومجهولا دون أن نقدم له كل ما كان ولا يزال يستحقه من تقدير وتكريم باعتباره أول من لعب الكرة رسميا فى مصر .. وأول من أسس منتخبا كرويا لمصر .. وأول من علم المصريين كيف يحبون كرة القدم وكيف يحيلونها إلى قنبلة فى وجه الانجليز.
ولعله قد يكون من المناسب هنا .. لكى نستطيع ادراك حجم وقيمة انتصار محمد أفندى ناشد والتيم المصرى فى تلك المباراة الأولى .. أن نتوقف قليلا للتقليب فى دفتر أحوال المصريين فى ذلك الزمن .. عام 1895 وما قبله أو بعده من أيام وحكايات .. فالمؤرخ المصرى الكبير .. عبد الرحمن الرافعى .. يحكى لنا عن مصر والمصريين فى ذلك الوقت .. حيث ساد اليأس الجماعى والاحباط العام.
وقد ظلمنا محمد أفندى ناشد حيا وميتا .. لم يهتم أحد بصانع هذا الانتصار وهذا الانجاز .. تركناه يعيش وحده ويموت فى هدوء منسيا ومجهولا دون أن نقدم له كل ما كان ولا يزال يستحقه من تقدير
فقد الناس التطلع إلى المثل العليا وانصرفوا إلى الصغائر والسفاسف وتعلقوا بها واطمأنوا اليها وتنكروا لمعانى الشهامة والبطولة .. انتشر الربا انتشارا ذريعا وانتشرت الخمور الفتاكة بين سكان المدن ثم صارت محلات المسكرات تفتح علنا فى القرى بين الفلاحين .. وانتشرت أيضا آفة الميسر .. وأضاف الرافعى مؤكدا أن مصر في تلك السنوات الأولى شهدت حالة انحلال عام .. انحلال في الوطنية وانحلال في الأخلاق وانحلال في الاقتصاد وانحلال في المجتمع.
ووسط هذا اليأس والاستسلام والاحباط والانحلال والحزن .. حقق التيم المصري أول انتصار مصري على الانجليز .. فكان هذا الفوران في المشاعر وكانت كل هذه الفرحة التي بكل المقاييس فاقت حجم مجرد انتصار في مباراة لكرة القدم .. وهكذا ولد المعنى الجديد ـ السياسي والوطني ـ لكرة القدم في مصر .. منذ ذلك التاريخ لن تعود الكرة فى مصر مجرد لعبة .. ولم يكن هذا استثناء مصري فى كتاب تاريخ الكرة في العالم .. وإنما تكرر هذا الأمر ـ بصور مختلفة أكبر أو أصغر ـ فى عديد من البلدان الأخرى.
فالباحث الأكاديمى بيل موراى أكد أن أحد أسباب انتشار كرة القدم في بلدان كثيرة كان أصلها الإنجليزي .. وهو ما دعا بالوطنيين المتحمسين في هذه البلدان للاهتمام بكرة القدم لأسباب سياسية وعاطفية وليس لأسباب تخص الكرة نفسها .. حتى العسكريين فى تلك البلدان اهتموا بهذه اللعبة رغم أنها عديمة القيمة عسكريا فقط لاستغلالها فى الصراع مع الانجليز .. وأكد الباحثان .. أرمسترونج وجوليانوتى .. أن الكرة سرعان ما أصبحت في أفريقيا تحديدا هى عجلة الكبرياء الثقافي والتضامن القومي والاجتماعي.
وأكد الواقع المصرى ما قالته وخلصت اليه الدراسات الأكاديمية .. فقد التف المصريون حول كرة القدم وصنفوها فى وجدانهم وذاكرتهم وحياتهم كإحدى وسائلهم المتاحة فى مقاومة الانجليز .. أصبحت مبارياتها مثلها مثل خطب مصطفى كامل ومقالات معارضة وغاضبة فى العروة الوثقى أو الوطن أو الأهرام .. وأصبح الفوز على الانجليز فى ملاعب الكرة بمثابة الثقب الضيق الذى يخرج منه بخار الغضب والغيظ والكراهية .. ليس هذا فقط .. وإنما أضفى انتصار التيم المصرى أيضا ـ وبشهادة الناقد الكبير إبراهيم علام ـ على كرة القدم كل ما كانت تحتاجه من شعبية ومكانة واعتراف رسمي وشعبى.
فالباحث الأكاديمى بيل موراى أكد أن أحد أسباب انتشار كرة القدم في بلدان كثيرة كان أصلها الإنجليزي .. وهو ما دعا بالوطنيين المتحمسين في هذه البلدان للاهتمام بكرة القدم لأسباب سياسية وعاطفية
وبدأ كثير من الأطفال والشباب يقبلون على لعب كرة القدم التى أصبح التفوق فيها يثير الكثير جدا من اعجاب الآخرين واحترامهم .. كما أن كثيرا من القيود التى كان يفرضها الأهالى على ممارسة اولادهم لكرة القدم بدأت تخفو وتلين يوما وراء آخر .. وتزامن مع ذلك قرار بضرورة اهتمام المدارس المصرية بكرة القدم وتأسيس فريق كروى لكل مدرسة وأصبح محمد باشا زغلول وكيل وزارة المواصلات مشرفا على هذا النشاط الكروى المدرسى بداية من عام 1896.
فكان من نتيجة ذلك كله أن زاد عدد الصغار الذين يلعبون .. وساعد على ذلك أن الترام بدأ يجرى فى شوارع القاهرة فأصبح التنقل سهلا وممكنا وآمنا من حى إلى آخر .. ينتقل بالترام الذين يريدون أن يلعبون أو حتى الذين يريدون الفرجة على من يلعب .. وهكذا .. بقت هذه اللعبة الجديدة تكتسب يوما بعد يوم جمالا وضرورة وانتشارا وغراما ومكانة .. ومثلما كان من الضرورى التوقف عند عام 1895 الذى شهد أول مباراة وأول منتخب وأول انتصار كروى مصرى.
يبقى من الضرورى أيضا التوقف عند عامين آخرين .. الأول هو عام 1900 .. الذى قرر فيه نظار المدارس الإبتدائية والثانوية .. أو وافقوا .. على تأسيس فرق كروية تلعب بإسم مدارسهم .. صحيح أن الكرة قبل هذا العام كانت قد دخلت إلى كل مدرسة ووقع فى غرامها كثير من التلاميذ فى كل مدرسة .. ولكن الأمر بعد هذا القرار .. أصبح شرعيا .. وخلق التنافس الهائل بين عشاق الكرة فى كل مدرسة بعيدا عن الإنجليز وفرصة اللعب معهم والانتصار ولو فى ملاعب الكرة على جنود جيش الاحتلال.
أما العام الثانى .. فكان حين تأسس نادى السكة الحديد عام 1903 .. لم يكن نادى السكة الحديد كما يظن ويتخيل الكثيرون حتى الآن هو أول ناد فى مصر .. ولكنه كان أول ناد رياضى فى مصر كلها يضم ملعبا لكرة القدم .. أى أن الكرة فى مصر بدأت بالحرب على الإنجليز مع محمد أفندى ناشد .. ثم تحولت إلى لعبة للمصريين الصغار حين اعترف بها نظار المدارس .. وأخيرا تنتقل إلى الأندية وملاعبها بدلا من الشوارع والحارات والخرابات والميادين.
فكان حين تأسس نادى السكة الحديد عام 1903 .. لم يكن نادى السكة الحديد كما يظن ويتخيل الكثيرون حتى الآن هو أول ناد فى مصر
وفى الثانى والعشرين من شهر مايو عام 1903 .. تم افتتاح هذا النادى تحت لافتة نادى الرنك هوكى ببولاق وأسسه الإنجليز الذين كانوا يديرون مرفق السكة الحديد فى مصر .. النادى كان بجوار ورش وعنابر السكك الحديد فى جزيرة بدران فى شبرا .. وضم مائدتى بلياردو ومضمار ألعاب قوى وملاعب للتنس .. ولأول مرة .. ملعبا لكرة القدم .. ولم يكن هذا الملعب الأول هو القيمة الوحيدة التى أضافها السكة الحديد للكرة المصرية .. ولكنه سمح أيضا لعمال السكك الحديدية المصريين بلعب الكرة.
ولأن الأمر لم يكن مقصورا على القاهرة وحدها .. وإنما كانت حكاية الغرام بالكرة والاستمتاع بها تتكرر فى مدن مصرية أخرى كثيرها أهمها كانت الإسكندرية .. فقد شهدت المدينة الجميلة بعد عامين فقط من تأسيس نادى السكة الحديد فى عام 1903 .. تأسيس نادى النجمة الحمراء الذى نعرفه كلنا الآن بإسم النادى الأوليمبى .. أسسه على مخلص الباجورى .. شاب سكندرى رائع وعاشق لكرة القدم .. أسس ناديا فقط من أجل الكرة لم يكن يضم فى بداياته إلا حجرة واحدة شديدة التواضع يستبدل فيها اللاعبون ملابسهم لينطلقوا بعدها للعب الكرة فوق تلال الحضرة بمنطقة وابور المياه.
وهنا ينبغى علينا كلنا رد الحقوق لأصحابها وتوضيح حقائق ومحطات التاريخ .. ففريق محمد أفندى ناشد هو أول منتخب مصرى .. وحوش وزارة المالية كان أول ملعب كرة فى مصر حتى وإن أصبح الملعب الأشهر بعد ذلك بقليل هو ملعب قرة ميدان فى القلعة وهو الذى اختاره محمد أفندى ناشد لمواجهة الإنجليز .. ونادى السكة الحديد هو أول ناد فى مصر يضم ملعبا لكرة القدم .. والنادى الأوليمبى هو أول ناد فى مصر يتأسس فقط من أجل كرة القدم.
فقد شهدت المدينة الجميلة بعد عامين فقط من تأسيس نادى السكة الحديد فى عام 1903 .. تأسيس نادى النجمة الحمراء الذى نعرفه كلنا الآن بإسم النادى الأوليمبى
والمثير فى الامر أن الباجورى ذهب للتفاوض مع مسئولى مصلحة الجمارك بالإسكندرية لينال دعما كان يحتاجه بشدة .. فقرر تغيير اسم النادى من نادى النجمة الحمراء إلى نادى الموظفين .. وبذلك دخلت طائفة جديدة لمجال عشق الكرة فى مصر .. الموظفون .. أى أن عشاق الكرة فى مصر عام 1905 .. أصبحوا طلبة المدارس والعمال والموظفين .. وهكذا تم اعداد المسرح الكروى واستكمال لوازمه قبل ولادة أهم وأشهر ناديين للكرة فى مصر .. الأهلى والزمالك.