الحقيقة الواضحة والمؤكدة هى أن مصر لعبت الكرة .. أولا لأنها كانت تحتاج أن تلعب .. ولأنها ثانيا وجدت أخيرا اللعبة التي تناسب ظروفها وقدراتها .. فكان أن انتشرت الكرة فى مصر بشكل لم يتوقعه كثير من المصريين فى ذلك الوقت البعيد .. بل إنه لم تمض سوى ثلاث سنوات فقط على دخول الإنجليز لمصر حتى كانت شعبية هذه اللعبة الجديدة تتزايد بشكل هائل.
وبدأ المصريون يبتعدون بلعبتهم الجديدة عن معسكرات الإنجليز وثكناتهم ويذهبون بها إلى احيائهم وشوارعهم وحواريهم .. وفى تلك الأيام .. أو فى تلك السنوات .. لم يعد هناك يوم جديد يمضى إلا ويتضاعف عدد الذين يقعون فى غرام اللعبة الجديدة ويتخلون عن ترددهم وحيرتهم وخوفهم وخجلهم ويبدأون ممارسة كرة القدم.
وبدأت مصر تعرف اختراعا كرويا جديدا اسمه الفرق .. فمثلما انقضى بسرعة زمن الاكتفاء بمشاهدة جنود الإنجليز وهم يلعبون الكرة .. انتهى بسرعة أيضا وقت استكشاف كرة القدم والتعرف على مهاراتها الأساسية كتسديد الكرة أو تمريرها أو التغزيل بها .. وجاء أوان ما هو أهم وأكبر وأحلى من ذلك .. جاء أوان استغلال ذلك كله فى مواجهة آخر وآخرين .. ولدت الحاجة لأن تكون هناك مباريات وفرق تتلاقى وتلعب وتتنافس وتتسابق وتسفر لقاءاتها عن فائز ومهزوم وكانت فرق الأحياء والشوارع هى أولى الفرق الكروية فى مصر .. فقد بدأ أبناء كل حى أو شارع أو حارة يكونون التيم أى الفريق الخاص بهم .. وأصبح الانتماء لهذا التيم هو أول انتماء كروى حقيقى فى بلد لم يعرف بعد ما هى الأندية وما هو معناها أو ضرورتها أو وظيفتها.
وبدأ المصريون يلعبون .. كان اللعب فقط هو الضرورة الوحيدة التى لابد منها .. أما بقية التفاصيل فلم تكن مهمة أو أساسية .. وبالتالى أصبح الملعب هو أى أرض فضاء أو خرابة أو الشارع نفسه والحارة نفسها .. وفى المباريات المهمة فقط كانوا يحيطون هذا الملعب بحبل من الليف يقف حوله المتفرجون.
وبدأت مصر تعرف اختراعا كرويا جديدا اسمه الفرق .. فمثلما انقضى بسرعة زمن الاكتفاء بمشاهدة جنود الإنجليز وهم يلعبون الكرة .. انتهى بسرعة أيضا وقت استكشاف كرة القدم
أما الكرة نفسها فكانوا يرضون بها ولو على شكل شراب قديم أو قطعة جلد أو حتى قطعة طوب ولم يكن من الضرورى أن تشبه الفوتبول التى يلعب بها الإنجليز إلا فى المباريات المهمة فقط حيث كان الفريقان يتقاسمان الكرة .. فريق يأتى "بالكفر" أى الغطاء الخارجى وفريق يأتي بالأنبوبة ويتم نفخ الكرة قبل اللعب مباشرة .. والحكم كان يجرى اختياره من الواقفين على الحبل .. المهم أن يكون أفندى يرتدى قميصا وبنطلون .. وهو شرط لم يكن ملزما للاعبين أنفسهم .. فكان هناك من يلعب ببذلته الكاملة .. ومن يلعب ببنطلون وقميص .. ومن يلعب بجلبابه بشرط رفعه إلى ما فوق الركبة.
وكان معظم اللاعبين حفاة حيث لم تتوافر أيامها أحذية مناسبة للعب .. وبالطبع كانت كل مصطلحات اللعب ومفرداته باللغة الإنجليزية .. اللعبة اسمها فوتبول .. والمرمى جون .. والحكم ريفرى .. والعرقلة فاول .. والكرة خارج الملعب أوت.
ويقدم لنا إبراهيم علام مزيدا من رتوش لازمة لتغدو الصورة أدق وأوضح فيحكى عن مباريات الكرة فى ذلك الزمن البعيد ويقول .. كان من الصعب أو من النادر فى تلك الأيام أن تنتهى مباراة كرة بسلام .. فلم يكن هناك قانون ولا حكم بالمعنى أو المفهوم الحقيقى .. وكان هناك أنصار متحمسون لكل فريق لم يعلمهم أحد من قبل أنها مجرد لعبة فيها فائز ومهزوم .. هم أصلا لم يأتوا ليشاهدوا أو ليستمتعوا بكرة القدم وإنما ليفوزوا على أنصار ومشجعى وأقارب وأهالى فريق الحى الآخر أو الشارع الآخر المنافس.
ولم يكن هؤلاء على استعداد مطلقا لتقبل أية خسارة .. كما لم يكونوا على استعداد لاحترام قرار أى حكم سبق واختاروه بأنفسهم من الأفندية الواقفين حول الحبل وامتلكوا بالتالى ـ هم واللاعبون ـ القدرة والجرأة على الاستغناء عنه فى أى وقت .. وقد أدى ذلك كله إلى رواج حالة من البلطجة الكروية .. حيث لم يعد يتعين على كل حى أو شارع أو حارة البحث فقط عن اللاعبين المميزين الذين يجيدون التصويب والتغزيل .. وإنما كان لابد من الاستعانة بعدد من البلطجية والفتوات ليصاحبوا الفريق فى كل مبارياته أو معاركه .. ونتيجة لذلك أصبح طبيعيا جدا ومنطقيا جدا أن تنتهى معظم المباريات بمعركة أو معارك يروح ضحيتها شباب أصيبوا بجراح أو كسر فى العظام .. الجراح كانوا يسعفونها فى الحال بالقاء التراب عليها لكتم الجرح وأحيانا كانوا يستبدلون بالتراب البن المطحون .. أما الكسور فكانت تقتضى الذهاب للمجبراتى.
ويضيف إبراهيم علام مؤكدا أن الأمر لم يقتصر على مشاجرات اللعب وحساسية الفوز أو الخسارة .. وإنما نجحت مباريات الكرة وقتها فى أن تجذب عصابات متخصصة فى النشل والسرقة يحرص أفرادها على حضور كل هذه المباريات لينشلوا ويسرقوا نقودا وثيابا وكل ما يمكن أن تطاله أيديهم .. ولم تقتصر مخاطر اللعب فقط على الخناقات والمشاجرات والعصابات والنشل والسرقة بل أدى اللعب فى الأراضى الفضاء وفى الخرابات إلى وجود عديد من الضحايا لمختلف أنواع الحشرات والعقارب والثعابين.
ولم يكن هؤلاء على استعداد مطلقا لتقبل أية خسارة .. كما لم يكونوا على استعداد لاحترام قرار أى حكم سبق واختاروه بأنفسهم من الأفندية الواقفين
هكذا بدأت كرة القدم فى مصر .. وهكذا انتشرت وراجت .. صحيح أن تفسير ذلك يرجع إلى سببين أساسيين كما سبق وأشرت وهما الحرمان الرياضي الطويل الذى عاناه المصريون قبل الاحتلال الإنجليزى وأيضا طبيعة كرة القدم نفسها كلعبة سهلة وممتعة ومثيرة أيضا .. إلا أنه كانت هناك ـ إلى جانب هذين السببين الأساسيين ـ أسباب أخرى ساعدت على انتشار ورواج كرة القدم فى تلك السنوات .. أسباب تشرح وتفسر لماذا أقبل الكثيرون هكذا على هذه اللعبة الجديدة .. أو بمعنى آخر لماذا أصبح دخول كرة القدم مصر حدثا له كل هذا البريق الإنسانى والاجتماعى .. ومثل هذا السؤال لن نجد له إجابة دقيقة وواضحة إلا فى كتاب صدر سنة 1902 كتبه محمد عمر بعنوان حاضر المصريين وسر تأخرهم.
وفى هذا الكتاب يقدم محمد عمر وصفا دقيقا لشباب القاهرة فى نهايات القرن التاسع عشر ويؤكد أنهم شباب ناقص التربية وناقص التشغيل وناقص الترفيه ويمثل مشكلة اجتماعية متميزة وقابلة للتفجر .. كان ينقصهم الانضباط والتربية .. كان الشبان يخرجون إلى شوارع المدينة كل مساء ويهيمون فى مجموعات .. حيث يمارسون آخر بدعهم .. المقالب .. وخلال النهار وبدلا من الانشغال بالمدرسة أو العمل .. كان الشباب يضيعون وقتهم فى الكسل فى المقاهى وخصوصا عند العصر حين تظهر الصحف اليومية.
وناقش محمد عمر أيضا نتائج هذا الكسل والذى أسفر عن مشكلات اجتماعية عديدة أهمها إدمان الكحول وإدمان المخدرات والزنا والمرض والجنون .. وكان التعليم المدرسى بين الفقراء مازال غير كاف .. وإذا تعلم أى شخص فإن الكتب المتاحة له تحتوى على صور أكثر من الكلام وتمتلئ بقصص بذيئة مثل قصة الفلاح والثلاث نساء .. والحياة العائلية مهملة .. فقد شرع الرجال فى قضاء نهارهم أو كل أمسياتهم فى أكثر المقاهى سيئة السمعة حيث تسليهم النساء ويحكى الرجال حكايات الدون جوان.
ويستكمل تيموثى ميتشيل تفاصيل الصورة فيؤكد أنه فى العقد الأخير من القرن التاسع عشر فى مصر .. تضاعف عدد المقاهى والبارات والصالات أكثر من ثلاثة أضعاف .. وفى تلك المقاهى يجتمع السوقة من الناس .. فهى مأوى لأهل البطالة والكسل .. أما جريدة الأهرام فقد طالبت فى سنة 1892 الشرطة بأن توجه أنظارها لصغار الفتيان الذين نراهم فى قوارع الطريق يقامرون.
كانت كرة القدم إذن هى الحدث الذى فاجأ الجميع .. حدث سرق من الكبار عجزهم وإدمانهم .. وسرق من الشباب حيرتهم وكسلهم .. وسرق من الصغار فراغهم وصعلكتهم .. نجحت كرة القدم فى كل ذلك بكل ما فيها من إثارة كانت كافية لأن يدير الكثيرون لها وبسببها رءوسهم .. وقد ساعد ذلك كثيرا كرة القدم فى بدايتها فى مصر .. بداية استغرقت ثمانى سنوات كاملة .. أى منذ بداية الاحتلال الإنجليزى فى سنة 1882 وحتى بدأت الصحافة المصرية فى سنة 1890 تتنبه لهذه اللعبة .. وهذه الظاهرة الجديدة .. إلى درجة أزعجت إحدى صحف ذلك الوقت فخرجت تحذر الناس من شغف الأطفال بلعبة الإنجليز وهى قذف الكرة فى الأراضى الفضاء دون أن تفلح كل محاولات الجند فى منع الأطفال من ممارسة هواياتهم فاضطروا إلى إبلاغ أولياء أمورهم بهذا العبث بدلا من مطاردة أصحاب المنازل لهم.
ويؤكد أنهم شباب ناقص التربية وناقص التشغيل وناقص الترفيه ويمثل مشكلة اجتماعية متميزة وقابلة للتفجر
الصحيفة لم تكتب مجرد خبر يحكى ما يجرى ولكنها فيما يبدو أرادت ما هو أهم وأخطر من مجرد الخبر .. أرادت تحذير الناس من لعبة الإنجليز .. ومن شغف الأطفال بها .. وأخيرا من هذا العبث .. ولا يعنى كل ذلك إلا أن كرة القدم خلال ثمانى سنوات لم تعد مجرد لعبة مقصورة على معسكرات الإنجليز وثكناتهم .. ولم يعد المصريون يمارسونها فى خجل وعلى استحياء .. بل أصبح الجميع يعرفونها حتى وإن لم يقعوا فى حبها .. الكبار والصغار .. من تربطه علاقة ما بالإنجليز ومن لا يعرف حتى من هم الإنجليز ولا لماذا جاءوا من بلادهم البعيدة إلى مصر.
وإذا كانت الصحافة البرازيلية قد بدأت بعد سنوات قليلة تضيق بكرة القدم فكتبت إحدى الصحف المحلية عن أولئك المجانين البريطانيين الذين يركلون مثانة ثور ويشعرون بسعادة لا توصف حين ينجحون فى ادخال هذه المثانة فى مربع مصنوع من ثلاث خشبات .. فإن الصحافة المصرية تذمرت بدورها وكتبت فى سنة 1890 ذلك التحذير من لعبة الإنجليز الذى سبق وأشرت اليه.
ومثلما لم تفلح السخرية البرازيلية فى الوقاية من عدوى كرة القدم .. لم ينجح أيضا التحذير المصرى والذى كان بلغة كرة القدم تحذيرا جاء فى الوقت الضائع .. فمارد الكرة المصرية أولا خرج إلى الشوارع والحوارى ولم يعد هناك ما يمكنه إعادته إلى قمقمه مرة أخرى .. وثانيا لم تمض إلا سنتان فقط ثم صدر القرار الشهير الذى منح كرة القدم فى مصر ما كانت تحتاج إليه لتصبح لعبة مصر الأولى دائما .. ولعبتها الوحيدة غالبا .. إنه قرار محمد زكى باشا ناظر أو وزير المعارف بإدخال الرياضة ومن بينها كرة القدم فى مناهج المدارس المصرية .. القرار الذى لم يصدر فى سنة 1897 كما هو شائع فى كثير من كتابات ومحاولات تأريخ حكاية الكرة فى مصر وإنما صدر فى سنة 1892بدليل أن وزارة المعارف العمومية حين احتفلت بعيدها المئوي فى سنة 1937 عددت من انجازاتها العناية بالتربية البدنية فى المدارس بداية من سنة 1892.
ورغم ذلك لم يكن توقيت صدور القرار وما إذا كان سنة 1897 أو سنة 1892 هو المشكلة .. وإنما المشكلة كانت دواعى ودوافع هذا القرار .. ومن المثير حقا أن كل من تصدوا من قبل لكتابة تاريخ الكرة والرياضة المصرية توقفوا طويلا وكثيرا عند هذا القرار وأسبغوا عليه أكثر مما يستحقه من حفاوة وتكريم وتهليل وتقدير باعتباره القرار الحضارى الحكيم الذى أصدره وزير مصري طامح وطامع فى مستقبل أفضل للرياضة المصرية .. وهو الأمر الذى لم يكن صحيحا على الإطلاق .. قد يكون هذا القرار بالفعل أفاد الرياضة المصرية وعلى وجه التحديد كرة القدم .. إلا أنه لم يصدر لهذا الهدف .. ولا كانت كرة القدم أو الرياضة كلها تشغل بال محمد زكى باشا أو الحكومة المصرية وقتها إلى هذا الحد .. فمحمد زكى باشا تولى وزارة المعارف مع تشكيل حكومة مصطفى باشا فهمى فى الرابع عشر من شهر مايو سنة 1891 .. وعقب استقالة وزارة مصطفى باشا رياض التى كانت تضم على باشا مبارك وزيرا للمعارف فى حين كان يشغل محمد زكى باشا منصب وزير الأشغال .. وقد جاءت الوزارة الجديدة باسمائها وسياساتها بناء على ترشيح اللورد كرومر المندوب السامى البريطانى فى مصر.
ومن الواضح .. أو من المؤكد .. أن أحدا لم يحاول من قبل قراءة النص الكامل لقرار محمد زكى باشا الذى أصدره فى سنة 1892 .. فهذا القرار (3) صدر أصلا لتعديل خطة الدراسة فى المدارس المصرية .. بقصد اقرار تدريس الجغرافيا والتاريخ والعلوم الطبيعية باللغة الإنجليزية .. والغاء الوقت الذى كان مخصصا لدراسة اللغة التركية وجعل دراسة هذه اللغة اختياريا .. ثم إضافة ساعتين كل أسبوع للرياضة البدنية.
فكتبت إحدى الصحف المحلية عن أولئك المجانين البريطانيين الذين يركلون مثانة ثور ويشعرون بسعادة لا توصف حين ينجحون فى ادخال هذه المثانة فى مربع مصنوع من ثلاث خشبات
هذا هو القرار .. أما حكايته فهى أكبر من ذلك .. أكبر من محمد زكى باشا وأكبر من كرة القدم .. فهى حكاية سياسة إنجليزية خطط لها ونفذها بمنتهى الإصرار والدقة والنجاح اللورد كرومر المندوب السامى البريطانى فى مصر .. فاللورد كرومر كان لا يريد فى حقيقة الأمر أن ينال المصريون أى تعليم حقيقى .. كان يعتقد أنه خطأ كبير وفادح أن يتعلم الفقراء ما يكفى لأن يكبروا ويفهموا ماذا يجرى فى بلدهم .. كان يريدهم فقط أن يتعلموا كيف يكتبون كتابة صحيحة .. وأن يعرفوا قواعد الحساب والجمع والطرح والضرب والقسمة .. ولكن لم يكن هناك أى داع لأن يتعلموا كيف يفكرون.
ولهذا كان من الضرورى اقتطاع كل ما هو ممكن من وقت فى المدارس ليتم تخصيصه للعب .. فلم يكن كرومر يخشى أن يتعلم التلاميذ المصريون فى مدارسهم أصول وقواعد كرة القدم .. كان يخشى فقط أن يتعلموا ما هو أكثر من الهجاء والحساب وكرة القدم .. وهكذا .. كانت تجرى بهمة وحماسة طموحات الإنجليز لتدمير وتخريب التعليم فى مصر .. وهو ما دفع بمجلس شورى القوانين لأن يعترض بعد سنتين فقط عقب صدور قرار إدخال الرياضة البدنية فى المدارس على وزارة المعارف التى أهملت شئون التعليم وعلى القابضين على زمام وزارة المعارف العمومية الذين سعوا بكل اجتهاد إلى تقليل التعليم.
وكانت جريدة الأهرام قد سبقت مجلس شورى القوانين فى الاعتراض على أحوال التعليم فى مصر .. فقالت فى شهر فبراير سنة 1892 أنه ليس من فائدة تعود على البلاد فى الإقامة على نظام التعليم الحاضر الذى غاية ما يبلغ فيه المتعلمون معرفة حرفة من الحرف أو علم من العلوم المعينة لهم على معاشهم الشخصى .. وعادت جريدة الأهرام لتنشر فى صفحتها الأولى بعد أقل من شهر رسالة من أحد الأفاضل المصريين يشكو فيها أحوال التعليم الذى لم يعد مجانيا ولم يعد يقوى أو يتحمل نفقاته ومصاريفه إلا سراة القوم وهم قليلون بعكس السواد الأعظم الذين لا يقدرون على احتمال هذه الأثقال.
ورغم اعتراض الأهرام ومجلس شورى القوانين بقى تخريب التعليم فى مصر سياسة إنجليزية دائمة وغير معلنة التزم بها وأصر عليها اللورد كرومر حتى تم إبعاده عن مصر .. وكانت هذه السياسة هى ما دفع بأمير الشعراء أحمد شوقى لأن يودع كرومر بقصيدة شهيرة قال فيها: أيامكم أم عهد إسماعيلا أم أنت فرعون يسوس النيلا؟ قالوا جلبت لنا الرفاهة والغنى جحدوا الإله وصنعه والنيلا هل من نداك على المدارس أنها تذر العلوم وتأخذ الفوتبولا؟
كان يخشى فقط أن يتعلموا ما هو أكثر من الهجاء والحساب وكرة القدم .. وهكذا .. كانت تجرى بهمة وحماسة طموحات الإنجليز لتدمير وتخريب التعليم فى مصر
وقد يستاء الكثيرون الآن من أمير الشعراء الذى هاجم كرة القدم وسخر منها إلى هذا الحد .. لكن أحمد شوقى فى حقيقة الأمر كان يسخر من اللورد كرومر وسياسته التى أفسدت التعليم فى مصر بمنتهى العمد وبكامل سبق الإصرار والترصد .. وربما كان أمير الشعراء يسخر أيضا من كل الذين سيجيئون بعد عصره وأوانه يمجدون ويفخرون بقرار محمد زكى باشا دون أن يفهموا لماذا صدر مثل هذا القرار ومن الذى كان صاحبه الحقيقى.