تتعارض الدولة الدينية مع الدولة العلمانية، لأن الأولي هي دولة القرون الوسطي حيث كان كل شيء دينا.ً والثانية دولة العصور الحديثة القائمة على الفصل المرن بين الشأنين الديني والدنيوي، اللذين لا يتعاديان بل يتكاملان، شرط أن يبقي كل منهما محصوراً في مجال اختصاصه الأساسي. تتعارض الدولة الدينية مع الدولة العلمانية خصوصاً في مجال المواطنة : التفاوت بين الرجل والمرأة وبين المؤمن والمواطن، أي المسلم وغير المسلم، تفاوت جوهراني في الدولة الدينية التي لا تعترف للمرأة بحقوق المواطنة وتعترف للمؤمن بدينها فقط بحقوقه كمؤمن لا بحقوقه كمواطن . أما غير المؤمن بدينها فتعامله كعدو بالقوة أو بالفعل. أما في الدولة العلمانية فالرجل والمرأة ، والمؤمن والمواطن متساوون كأسنان المشط لا فضل لأي منهم على الآخر في حقوق المواطنة. الدولة الدينية تتصرف مع رعاياها بمنطق العصور الوسطي التي تعتبر الإنسان قاصراً، أي عاجزاً عن وضع قوانين ينظم بها قواعد العيش المشترك، أي علاقة المواطنين بعضهم ببعض وعلاقة دول العالم بعضها ببعض.
لماذا يقرن الإسلاميون العلمانية بالإلحاد؟
لتأليب جمهورهم عليها،ولأن مبرر ظهورهم هو محاربة الحداثة . والعلمانية تمثل إحدى أركان الحداثة بما هي ذروة العقلانية الديمقراطية. لماذا يكفر الإسلاميون الحداثة؟ باسم الحاكمية الإلهية، التي هي لب مشروعهم الديني – السياسي و باسم فقه الولاء والبراء الذي يكفر خاصة منذ ابن تيمية التشبه بـ"الكفار"، أي تبني أزيائهم وعاداتهم وتقاليدهم وقيمهم وعلومهم ومؤسساتهم. لكن علينا نحن العلمانيين أن نمتلك شجاعة قناعاتنا ونصدع بها في وجه الإسلاميين الذين هم في الواقع رد فعل مذعور على الحداثة العالمية واحتمالات دخولها إلى أرض الإسلام. مخاوفهم في محلها. فالحداثة اليوم اتجاه تاريخي لا يصد ولا يرد. وستصل إلينا كما وصلت إلى قبائل الإسكيمو ! بل أجازف بالقول بأن الإسلاميين قد يكونوا أداة التاريخ اللاشعورية لإدخال العلمانية إلى أرض الإسلام. بعد ربع قرن من قيام الجمهورية الإسلامية في إيران، يتباهى طلبة قم بأنهم علمانيون. 75% من الشعب و86% من الطلبة، توقفوا عن أداء الصلاة، حسب احصائيات بلدية طهران.المسلم الذي لايمارس الشعائر الدينية هو مسلم علماني. المساجد والجوامع التي كان يصلي فيها في عهد الشاه من3000الى5000لا يصلي فيها اليوم صلاة الصبح إلا 10 أشخاص وصلاة الظهر 25 شخصاً. 2 % فقط يصومون رمضان من شعب كان قبل ظهور الجمهورية الإسلامية صواماً قواماً ! السودان الصوفي، تخلت فيه نسبة مهمة من شبابه عن الإسلام بفضل حكم الإسلاميين . على العلمانيين أن لا يخشوا من استيلاء الإسلاميين على الحكم في أرض الإسلام خاصة في الدول التي تطبق الإسلاموية من دون الإسلاميين. فبعض البلدان لن تنتقل إلى العلمانية بسرعة قياسية، أي لن تتجاوز الإسلام السياسي والجهادي والسلفي إلا إذا طبقته وذاقت طعمه المرير عندئذ ستيأس منه. أطروحة فلسفة التاريخ الهيجيلية القائلة " لا سبيل لتجاوز مرحلة تاريخية إلا إذا تم تحقيقها" برهنت وقائع التاريخ على صحتها. خطأ لينين الكارثي على الحركة الاشتراكية هو قناعته الإرادوية بإمكانية "حرق المراحل"، انطلاقاً من "الحلقة الضعيفة في الرأسمالية" : روسيا. ماركس كان، كهيجل، مقتنعاً باستحالة حرق المراحل التاريخية وبضرورة تحقيق كل مرحلة تاريخية لتجاوزها. لذلك عارض ثورة عمال باريس 1871 لقناعته باستحالة المرور إلى الاشتراكية في فرنسا التي كانت مازالت حينها لم تحقق المرحلة التاريخية الرأسمالية التي ، لم تحققها يومئذ، في تقديره إلا بريطانيا.
العلمانية، كما هي سائدة في العالم، اتجاه تاريخي عارم. الإسلاميون لن يصمدوا طويلاً أمامه . لماذا؟ لأننا كلما عدنا إلى الوراء في التريخ وجدنا أن مساحة المقدس تغطي كل سطح الكرة الأرضية وكل سطح الحياة اليومية . فكل شيء مقدس، والإنسان لعبة الآلهة التي تتحكم في الكبيرة والصغيرة. لماذا؟ لأن العقل البشري ، أي العلم والتكنولوجيا ، كان مازال ، في مراحل تطوره الأولي، عاجزاً عن فهم وتفسير وتغيير العالم الذي يعيش فيه بقوانينه الخاصة. كان لابد له من الاستنجاد بالفكر السحرى الإحيائي، ثم بالفكر الأسطوري ثم بالفكر الديني ليفهم ويفسر ويغير عالمه. لكن في القرن السادس قبل الميلاد حقق العقل البشري، في مسار تطوره، قفزة نوعية فبدأ العقل البشري التحليلي والتجريبي ينافس العقل الإلهي في فهم وتفسير وتغيير العالم. هزم العقل أمام الأسطورة. لكن الحرب بين العقلاني والأسطوري ظلت سجالا . فما لبث أن نهض من هزيمته لينافسه يوما له ويوما عليه. لكن الاتجاه التاريخي كان دائماً متجهاً إلى فتح العقل البشري لمساحات أوسع فأوسع على سطح الكرة الأرضية وعلى سطح الحياة اليومية في مجال الفصل بين اختصاصات العقل الإلهي الروحية واختصاصات العقل البشري الدنيوية. مثلما قيد العقل البشري سلطة الملوك المطلقة ، قيد أيضاً سلطة العقل الإلهي المطلقة لكي تنحصر في المنطق الروحي الحدسي وتتخلي عن الباقي لمنطق العقل التحليلي وللتجربة العلمية . العقل البشري السوي ديمقراطي إذن يعطي ما لله لله وما لقيصر لقيصر. كيف حقق العقل البشري هذه الفتوحات العلمانية في عالمنا المعاصر؟ بالعلم والتكنولوجيا اللذين يساعدان العقل البشري على فهم وتفسير ما كان يتراءي للإنسان معجزة. مثلاً كان رائد الفلسفة العقلانية الحديثة، ديكارت، يعتقد أن قوس قزح لا تفسير عقلانياً له لأنه معجزة إلهية، أي من اختصاص العقل الإلهي. لكن لو تبني اليوم تلميذ في الباكالوريا (الثانوية العامة)تفسير ديكارت في امتحان الفلسفة لنال صفراً. لأن العلم يعلمه اليوم، وفي الباكالوريا بالذات، أن قوس قزح ظاهرة جوية ناتجة عن انكسار وانعكاس أشعة الشمس في قطرات المطر. تقدم العلم والتكنولوجيا اتجاة تاريخي لا رجعة فيه. فأمم العالم المتقدم تتنافس في اكتساب مزيد من العلم والتكنولوجيا ، وأمم العالم المتأخر تحلم بهما أو تسعى جاهدة لإكتسابهما. احتكار العقل العلمي والتكنولوجي لفهم وتفسير الظواهر الاجتماعية والظواهر الكونية لنزع القداسة المزعومة عنها، لا يماثله إلا احتكار المنطق الروحي لفهم وتفسير الظواهر الروحية حدساً. هذا الإحتكار العقلي والروحي معاً لا يتم بدون ممانعة ودون مقاومة من الإسلام السياسي المعاصر الذي يقاوم منطق العقل العلمي ومنطق الروح الصوفي . لكنها مقاومة محكومة بالفشل بمقياس الخط البياني للتطور التاريخي منذ ظهور العقل البشري في القرن السادس قبل الميلاد إلى الآن حيث تحكم في المتناهي في الصغر (الذرة) والمتناهي في الكبر (الأفلاك) والمتناهي في التعقيد (الدماغ الإلكتروني) . ولأن الإسلام الصوفي هو الإسلام الشعبي الذي لم يستطع الإسلام السياسي حتى الآن نزع الشرعية عن رسالته اللاعنفية والعزوفة عن التدخل في السياسة .
العاشق الحيران