أمات الرجال أم رفع القرآن؟
مرت على الإسلام أدوار عديدة، كان المسلمون في أول عهده قائمين به حق القيام الداخل، ناشرين ألويته في الخارج، ثم وقفت منهم الفتوحات و اقتصروا على القيام به في الداخل و دفع هجمات أعدائه من الخارج، ثم عجزوا عن دفع هجمات الخارج، ولكنهم في الداخل قد بقوا محافظين على إسلاميتهم قدر الإمكان. و كان هذا الدور أشد خطرا على الإسلام و أعظم نكبة على المسلمين من كل جهة، و أخذت بخناقهم، و سارت بهم سيرة صيرتهم شيئا فشيئا أعداء لأنفسهم و خصوما لبلادهم، فجاء الدور الآخر الذي هو أدهى و أمر و أنكى مما قبله، إذ أصبح الإسلام في الوقت الذي تدجج فيه خصومه في الخارج بأنواع معدات الكفاح المادية و المعنوية إزاء جيوش جرارة في الداخل من أبناء حماته في عهد ازدهار تلك الجيوش التي تقذفها المدارس و الكليات و الجامعات الأوروبية من أبناء المسلمين المنتشرين في أطراف بلاد الإسلام طولها و عرضها، يدخلون المدارس في أول أمرهم بنية تحصيل العلم و العرفان و رفع الجهل و الأمية عن الأوساط التي نبتوا فيها و لكنهم لا يخرجون منها و يرجعون إلى بلادهم إلا ويلعنون الإسلام، و يتبرؤون من القرآن، و ينتقصون تشريعه و أحكامه، و يهزؤون من محمد عليه الصلاة و السلام و أصحابه، ويسخرون من تاريخ الإسلام و من عظماء الإسلام و أزياء الإسلام، و يعافون اللغة العربية و يهجرونها و يخجلون من التخاطب بها، و يأنفون من واجبات الإسلام من صلاة و زكاة و صيام و حج و أمر بالمعروف و نهي عن المنكر، و من كل ما له علاقة بالدين، و يستثقلون ظل الوالدين و يجاهرونهم بالعقوق و الكفران، و يستخفون بحقوق الأقارب و أولي الأرحام، و يهمزون ويلمزون كل من رأوا منه تمسكا بالدين و اتباع أوامر الإسلام، و يصمونه بالرجعية و الجمود و اتباع القشور البالية الخ..
و في مقابل ذلك يخرون سجدا أمام تعاليم نابليون أو شكسبير أو جان جاك روسو، و يتغنون بأدب فولتير أو فيكتور هيجو أو أناتول فرانس، ويحنون رؤوسهم خاضعين أمام الفاتحين و العظماء الأوربيين، و يحتذون حذوهم في التنكر للإسلام و ما تصرف منه و في التخلق بأخلاقهم و طبع نفوسهم بطابعهم و يدعون لأنفسهم الحرية المطلقة في التهتك و الخلاعة و المجون، فيجاهرون بالفسوق و يعاقرون الخمور، و يلازمون موائد القمار إلى ما هنالك من التهتك و الفساد…
… جل في البلاد، و أغش المجتمعات العمومية، و امتط السكة الحديدية و ارهف أذنيك قليلا، و التفت ببصرك برهة إلى تلك الطبقة من الناشئة، تسمع و تر ما يسيل الآماق و يمزق الأفئدة و يفتت الأكباد على الإسلام من أبناء الإسلام. ما ذا تسمع و ترى من ألسنة أوروبية في أفواه إسلامية؟ سبابا للدين و اعتراضا لأحكام الإسلام و انتقاصا للنبي العربي، و استهجانا للقرآن و اللغة العربية، و استخفافا بعظماء الإسلام، و نكرانا لشيء يسمى تأريخ الإسلام، و ازدراء بأزياء المسلمين، و احتقارا لأحوالهم، كل هذا و أكثره و أقله واقع و شائع في سائر البلاد، و هو نتيجة طبيعية لتعليم برنامجه مؤسس على قلب وضعية الإسلام رأسا على عقب.
و هل ينتج غير هذا تعليم لا ذكر للغة العربية فيه و لا تاريخ الإسلام و جغرافية بلاد الإسلام إلا عرضا؟ و هل ينتج غير ذلك تعليم قوامه إعلاء مجد أوروبا و إحياء عظمتها و نشر لغاتها و إتقان آدابها الخ..
و ليس الذنب في ذلك ذنب الناشئة المتفرنجة، فهي تتكيف بالكيفية التي تراد لها، و لكن الذنب في ذلك ذنب الآباء و العلماء وأولياء الأمور، فهم المسؤولون حقيقة عن كل ما يستتبع ذلك من العواقب الوخيمة على الإسلام و المسلمين، إذ لولا تهاونهم وتساهلهم و تمهيدهم الطرق لذلك الخزي المؤبد لما وقع لهم و للإسلام أعداء من أبنائهم في داخل بيوتهم.
إن أنكى و أخزى من ذلك الخطر الداهم على الإسلام جمود العلماء و المفكرين و عدم اتخاذهم التدابير اللازمة لإيقاف ذلك التيار الجارف عند حده.
قد يسكت الإنسان و قد يغفل و قد يتهاون بالأمر إذا كان الخطر في الخارج غائبا عنه لا يحس به و لا يراه، أما و نحن قد أصبحنا في وسط بيوتنا داخل دوائر من الحرائق تلتهب ديننا و لغتنا و عظمتنا التاريخية، فكيف يسوغ لنا السكوت؟ و كيف يتسنى لنا القعود؟
نحن الآن في الداخل بين نارين نار الجمود و نار الجحود، و لكل من النارين رجال و أنصار، و حقيقة الإسلام و كيان المسلمين بين هذه و تلك، فماذا أعددنا لدرء هذا الخطر؟ و ما هي تدابيرنا و مساعينا يا ترى؟
إن الخطر عظيم و الموقف حرج للغاية، فهل يجمل بنا إزاءه الوجوم؟ أم يجدينا التلهف و التحسر؟ كلا و ألف كلا، القرآن يوجب علينا طاعة الله و طاعة الرسول بامتثال أوامرهما و اجتناب نواهيهما، فآمنا بذلك و صدقنا، و لكن هل فعلنا شيئا من ذلك؟
القرآن يأمرنا بالصبر و المصابرة و المجاهدة في سبيل نصرة الإسلام و إعلاء كلمة الله في أرضه و الصدق في القول و الإخلاص في العمل، فهل امتثلنا شيئا من ذلك؟
القرآن يفرض علينا الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و تحمل ما نلاقي في سبيل ذلك من المكروه و الأذى و موالاة الموفين الصادقين، و البراءة من الفاسقين الخائنين، فهل قمنا بشيء من ذلك؟
القرآن يحتم علينا حقوقا للإسلام بالذود عنه، و للأهل و الأولاد لتربيتهم و تعليمهم أمر دينهم و دنياهم و وقايتهم من تلك النار التي وقودها الناس و الحجارة، فهل أدينا شيئا من ذلك؟
القرآن يلزمنا بالتعاون على البر و التقوى و الاعتصام بحبل الله المتين و الالتفاف حول الأخوة الإسلامية العامة، و بالسلوك مسلك السداد و الإستقامة في الدين و الدنيا، فهل خطونا خطوة في هذه المحجة البيضاء التي ليلها كنهارها؟
القرآن ينهانا عن التمرد عن شريعة الإسلام و عن تعدي حدوده و تعاليمه، و عن انتهاك حرمه و حماه، و عن الاستخفاف بأمر دين المسلمين، و عن استعظام أمر الكفر و موالاة ذويه، فهل انتهينا عن ذلك؟
كلا و ألف كلا، لم يقع شيء من ذلك فيم أرى إلا نادرا، و ليت شعري ما سبب هذا كله؟ فهل مات الرجال أم رفع القرآن؟
أما القرآن فموجود بين أيدينا كما أنزله الله محفوظ في صدورنا، مملوءة به خزائننا، تعطر بذكره المجتمعات، و تشنف بنغمات آياته الأسماع في المنتديات.
نعم، رجال العمل به انقرضوا و ارتحلوا و بقي بعدهم ناس اكتفوا من الإسلام بالقول و الادعاء الفارغ إزاء هاتيك الجيوش الجرارة و التيارات الجارفة من الداخل و الخارج، اللهم إلا أفذاذ قليلين مبددين في الأرض كالنجوم في السماء تحيطهم غيوم كثيفة في ليلة ظلماء، فهل آن لجموع المسلمين أن يتعاونوا و يوحدوا صفوفهم لتبديد هاتيك الغيوم فتظهر شمس الإسلام على العالم بأشعتها الوضاءة؟
أين نحن يا قوم من هاتيك السيول الجارفة و ما تحمله للإسلام من آيات المسخ و الاستئصال؟ أفترتاح نفوسكم و يروق لكم أن تشب فلذات أكبادكم على عقيدة التمرد عن الإسلام و الانتقاص من المسلمين؟
أفترضون أن يشبوا على التنكر للعظماء من آبائكم و أجدادكم و على استهجان لغتكم العربية التي هي صلة متينة بينكم و بين دينكم و أسلافكم، و على امتهان جنسيتكم و أزيائكم الإسلامية، و على نبذ أحكام الإسلام من إرث و نكاح و حجاب وغيرها؟
إن تلك التعاليم الفاسدة هي التي مهدت الطرق لمصطفى كمال أتاتورك و أشياعه للانقضاض على الإسلام و هدم بنيانه في الأمة التركية الماجدة حجرة بعد أخرى و فتح أبواب المراقص و الخلاعة على مصاريعها فاختلط الحابل بالنابل، و انحل نظام الأسرة والعائلات، و حلت فيها الهمجية و الفوضى إلى أن صار الرئيس يراقص حليلة وزيره، و الخليل يخاصر زوجة خليله
تلك التعاليم الفاسدة جعلت أمان الله خان يحتذي حذو زميله مصطفى كمال و سوغت المملكة للملكة ثريا السفور و هدية القبلات منها لشبان الأفغان، و أباحت للملك إعدام خيرة علمائه و زهرة فطاحله، الأمر الذي زعزع عرشه و تركه منبوذا يعض بنان الندم. تلك التعاليم الفاسدة التي حفزت رضا خان في إيران أن يثور بشعبه على الإسلام. تلك التعاليم الفاسدة التي سددت علي عبد الرزاق و طه حسين و أضرابهما نحو الإسلام و تشريعه و لغته و آدابها بالطعن و الشتم و البذاء.
تلك التعاليم التي فتحت للمرأة في مصر و سوريا و حتى في تونس باب التمرد عن الإسلام و خلع حجاب الحياء منه حتى أصبحت تدعو فوق منابر جمعياتها أخواتها في العالم الإسلامي إلى الاحتذاء بحذوها، و اكتسبت بدعايتها الثائرة عطفا عظيما من رجال العلم و أرباب الأقلام و الصحافة في كثير من العواصم الخ الخ..
تلك هي الزوابع و العواصف التي تهدد كيان الإسلام في العالم، و إذ رأيتموها –يا قوم- بعيدة عنكم فهي في الواقع قريبة منكم، فإذا لم تدرككم الليلة فستصبح لديكم بكرة الغد بلا شك، فإذا أردتم الخير لأنفسكم و لدينكم و بلادكم فخذوا حيطتكم وتدبروا أمركم و إلا فاستعدوا للهلاك و الموت و الفناء..