المقال منشور بجريدة الشرق القطرية عدد الأربعاء 14/7/2010 م :
كنت في أمسية شعرية في إحدى دول المغرب العربي ، وبعد أن انتهيت من إلقاء القصائد ، وبعد أن انتهت حواراتي مع جمهور الحاضرين ، فاجأني شخص لا أعرفه وناداني باسمي مجرداً من أي لقب (وهو أمر لا يسوءني أبداً) وقال لي أنا فلان الفلاني ...!
أعرف الاسم ، أعرفه تماماً ، فهو اسم لصديق قديم عرفته في طفولتي ومراهقتي ، ذكرياتي معه انتهت من ربع قرن تقريباً !
الآن يقف أمامي رجل أربعيني ، أصلع ، يتدلى أمامه كرش يكفي لإخفاء خروف صغير (وربما كبير) ، مبتسماً ابتسامة طفولية صادقة !
أنا أعرف الاسم ولكن لا أعرف ما علاقة الاسم الذي أذكره بالشخص الواقف أمامي...!
بدأت نظراته بإلقاء اللوم عليّ لأنني لا أذكره، نظرات تتهمني بخيانة العشرة، وبنسيان أجمل أيام العمر، نظرات كلها "عشم" بأن لا ينتهي هذا الموقف بشكل سخيف !
حاولت أن ألفت نظره إلى أن شكله قد تغير، فرد عليّ بأن شكلي – أنا – لم يتغير كثيراً !
تبادلنا الأرقام، والتقينا في القاهرة بعد شهور .
تأكدت أنه هو، فقد بقيت فيه علامات مميزة من صديقي القديم، فخفة ظله ما زالت كما هي، وإن كانت قد تطورت، فدخلت إلى مناطق (الكبار)، وحين سألته عن أحواله بدأ بسرد قصته، وبدأت أنا بالتساؤل: لماذا ينحرف الإنسان ؟
لم ينشأ هذا الطفل (سابقاً) في بيئة سيئة ، بل هو من أصل طيب دون شك، وهو الآن مهندس بترول كبير ، ويملك شركة معدات للحفر والتنقيب عن البترول تدرُّ عليه ملايين الدولارات سنوياً ، وله خبرة في مجالات تجارية كثيرة وكبيرة ، وله شريك من أهل الحكم في كل دولة عربية يعمل فيها ، وتحدث معي ( شاكياً ) عن القذارات التي تحدث تحت الطاولة لكي يوقع العقود فوق الطاولة، حتى ظننت أنني أجلس مع رئيس عصابة لا مهندس بترول حصل على أعلى الشهادات في مجاله !
سألته : هل أنت راض عما تقوم به ؟
أجاب إجابة مكررة: وماذا أفعل؟
قلت له: إذا قلت لك ماذا تفعل ... هل ستفعل ؟
طبعا... الإجابة مجموعة من المبررات ، وفي النهاية غيرنا الموضوع ...!
ظللت عدة أيام أسترجع ذكريات الطفولة مع صديقي، وأسترجع تفاصيل اللقاء الذي جمعنا بعد أن كبرنا وأخذتنا الحياة ، فوجدت أن أصابع الاتهام – في رأيي – تشير إلى أنظمة الحكم الفاسدة المفسدة التي تحكم حياتنا في الدول العربية .
لا أعفي صديقي وأمثاله من المسؤولية، ولكني أرى أنهم أبناء زمنهم، لقد كبروا وترعرعوا في هذا المناخ الفاسد ، ولو كانت أمامهم فرص معقولة للترقي والنجاح دون فساد لما اضطروا للخوض في هذه القاذورات .
وليس هذا الأمر مقصورا على الصغار، أو على أصحاب رؤوس الأموال الصغيرة ، بل هو بلاء عام ، لا استثناء فيه ، فلا يستطيع الإنسان أن يصبح رجل أعمال كبيرا إلا إذا ارتكب مثل هذه الأخطاء ، ولا يستطيع أن يمارس أي عمل بسيط بدون أن يرتكب نفس الأخطاء ، و(كل برغوث على قد دمه) ، كما يقول المثل المصري !
إن أسوأ جرائم الأنظمة العربية أنها أفسدت الإنسان ، وسدت أمامه فرص النجاح الطبيعي ، فصار لزاماً على كل صاحب طموح أن يكون فاسداً ، أو على الأقل أن يكون له ظهير من المفسدين يقتات هو على صفقات فساده ، وبهذا يتحول الكبير والصغير إلى مجموعة من ذوي الكفاءات المتدنية ، لا يستطيعون الحياة بدون إجراءات استثنائية ولا يستطيعون إثبات كفاءتهم بدون واسطة أو رشوة ، ومع الوقت يتحول الجميع إلى جزء من نظام الفساد .
سيقول البعض: "الفساد موجود في كل مكان، وفي أكثر الدول تقدما"..
وأنا بدوري أقول: هناك فارق كبير بين أن يكون الفساد هو الأصل الذي يحكم حياة الناس، وبين أن يكون الاستثناء الذي يقابلونه نادرا...!
هذه الصورة القاتمة – للأسف – حقيقية ، وهي واضحة تمام الوضوح في كثير من الدول العربية ، واستمرارها سيؤدي إلى خراب عميم، لأن النظام الفاسد يقوم على الظلم، والظلم – كما قال ابن خلدون " مؤذن بخراب العمران