تخرج صديقي العزيز "سامح علي" في كلية الحقوق، وعمل محامياً في الشؤون القانونية في شركة بترول، وأصبح له عمل يدر عليه مرتباً ثابتاً، وصار أمامه مستقبل واعد في هذا المجال، وأصبح- بفضل ذكائه- على أول طريق النجاح.
استمر صديقي في عمله، وفجأة استقال، وقرر أن يستثمر مدخراته في الحياة (ميراثه من أبيه) في أمر مضمون، لقد قرر أن يستثمر هذا المال في نفسه!
صديقي مولع منذ الصغر برسم السيارات، دائما يتخيل شكل السيارة التي أمامه بعد عشر سنوات، فتراه ينظر إلى شكل المرسيدس (موديل العام الحالي) ويتخيل كيف سيصبح شكل هذه السيارة بعد عدة سنوات، ودائماً كان يصل إلى رسومات
مذهلة.
حين أرسل هذه الرسومات إلى شركة مرسيدس أشادوا به، ونصحوه بأن يصقل هذه الموهبة من خلال الدراسة في معهد من عدة معاهد عالمية في أوروبا، وأرسلوا له تزكية إلى أحد أكبر المعاهد المتخصصة في علم التصميم في العالم، وسافر صديقي (بعد أن استقال) إلى إيطاليا، ودرس اللغة الإيطالية، واجتهد في دراسته بشكل أذهل المتخصصين، وحصل على عدة جوائز في مسابقات وذلك قبل أن يتخرج، وأصبح اليوم مصمماً متخصصاً في كل شيء، خصوصاً في تصميم السيارات!
هذا باختصار شديد ما حدث مع صديقي "سامح"، والذي رفض أن يركن لحياة رتيبة (شبه مضمونة) لا يحبها، وطار خلف حلمه الذي يحبه من أجل أن يكون مصمماً.
قلة من الناس تتجرأ على كسر رتابة حياتها، خصوصاً في عالمنا العربي، حيث إن شظف العيش يغرق الناس في تفاصيل الحاضر، وبالتالي تعمى عيونهم عن المستقبل، يحبسون أنفسهم في أكذوبة الواقع، وينسون أن الواقع مجموعة من الافتراضات لا المسلمات، يسجدون لما هو كائن، ويتناسون أن وظيفة الإنسان هي السعي- قدر الإمكان- إلى ما ينبغي أن يكون.
كنت ضمن قلة من الناس شجعت "سامح" على مغامرته، وهو اليوم من النماذج التي أعتز بها، وأحرص على نشر تجربته لما فيها من العبرة الرائعة.
قصة "سامح" من الممكن قراءتها بمستوى أكثر عمقاً، فالشعوب التي تستسلم لحاضرها، وتنسى أن لها رسالة في الحياة، لا تحصد سوى حياة رتيبة ذليلة.
حلم الشعوب لا بد أن يكون حلماً جماعياً، يوظف كل الطاقات والمواهب والموارد المادية وغير المادية من أجل تحقيق الحلم.
حلم الشعوب لا يتحقق إلا بقدر من المخاطرة، وبالاستثمار في الإنسان وبناء خطة طويلة الأجل، يتعاقب على تنفيذها أجيال بعد أجيال.
غالبية مشاكل الشعوب العربية أساسها غياب الحلم، وغياب المشروع الحضاري القومي، وغياب الغاية الجماعية التي تسخر الجميع طواعية من أجلها.
ولكن ما الذي يقتل حلم الجماعة؟
إنه الاستبداد !
الاستبداد يوظف كل إمكانات الأمة من أجل تحقيق مصلحة شيخ القبيلة، أو الملك، أو السلطان، أو رئيس الدولة.. سمه ما شئت، وأعطه ما تريد من ألقاب السيادة أو الفخامة أو الجلالة أو السمو.. حينها تتحول الأمة إلى مجموعة من "السكان"، لكل منهم حلمه المستقل، ولكل منهم طموحه الفردي الذي لا يصب في مجرى يؤدي إلى بحيرة من الماء تتجمع فيها كل الأنهار.
إن آفة الاستبداد ليست في الظلم الفردي الذي يقع على آحاد الناس، بل في الظلم الجماعي الذي يخنق حلم الجماعة، ويقتل رؤيتها في تشكيل الغد..!
إن الخضوع للاستبداد، يعني ببساطة.. قتل المستقبل المشرق، والرضى بتدهور الواقع من سيئ إلى أسوأ..!
من كل ما سبق، لا بد من احترام بعض الانقلابات التي يقوم بها بعض الأشخاص لتغيير حياتهم، ما دامت تلك الانقلابات مدروسة بعقل واع، ولا ينبغي أن نحرم الخيال، وأن نجرم التمرد على الواقع السيئ، ولو أننا طبقنا ذلك بشكل جماعي، فإن ذلك سيضمن للأمة كلها أن تخطو بعض الخطوات إلى الأمام، بعد عشرات السنين من الثبات، بل التراجع..!
عبدالرحمن يوسف