قصة القناة
ترجع فكرة حفر قناة تربط بين البحرين الأبيض والأحمر إلى أقدم العصور، وسجل التاريخ أن مصر شقت أول قناة صناعية على وجه الأرض؛ فقد حفر الفراعنة قناة تربط بين النيل والبحر الأحمر، وجرت هذه القناة حينًا وتوقفت آخر. وعندما فتح المسلمون مصر جدد عمرو بن العاص هذه القناة تنفيذا لأوامر الخليفة عمر بن الخطاب، وفي رواية للمقريزي أكد أن السفن استطاعت أن تصل من الفسطاط إلى القلزم (السويس) إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة بعد أقل من عام على الفتح، ومجد الفيلسوف والشاعر الفرنسي المعروف فوليتير فضل عمر بن الخطاب على الملاحة بتجديده لهذه القناة الحيوية التي استمرت في العمل حوالي مائة وخمسين عامًا حتى أوصدها عند نهايتها أحد الخلفاء العباسيين سنة (159هـ = 775م).
وذكرت بعض المصادر أن عمرو بن العاص فكر في وصل البحرين الأبيض والأحمر، لكن الخليفة عمر منعه من ذلك، واكتفى بتجديد قناة فرعون التي كانت تمتد بطول مائة وخمسين كيلو مترًا؛ لأنه خشي من وصول المسيحيين وتسربهم إلى الأراضي المقدسة في مكة والمدينة.
وعندما اكتشف البرتغال طريق رأس الرجاء الصالح في بداية القرن السادس عشر الميلادي تغيرت معه حركة التجارة العالمية، ولم تعد مصر والإسكندرية قلب هذه التجارة، وعانت من جراء ذلك معاناة شديدة، ومع تزايد التنافس الاستعماري بين الدول الكبرى نشط الفرنسيون للتغلب على منافسيهم البرتغاليين في الشرق الأقصى، ورأوا أنه لا سبيل لذلك إلا بإعادة التجارة إلى طريقها القديم والحصول على حاصلات الشرق بواسطة السويس، وصارت تلك الفكرة الشغل الشاغل للدبلوماسية الفرنسية ردحا من الزمن، وعندما جاءت الحملة الفرنسية إلى مصر بقيادة نابليون بونابرت سنة (1212هـ= 1798) درس إنشاء قناة تربط البحرين، وكلف بعثة علمية لوضع دراسات هذا المشروع الذي كان العمود الفقري في برنامجه الاستعماري، غير أن "ليبير" رئيس البعثة وقع في خطأ علمي هندسي قال فيه بارتفاع مستوى البحر الأبيض عن البحر الأحمر.
وقد فكر محمد علي في شق قناة تصل بين القاهرة والسويس، وتأسست جمعية في أوروبا غرضها الدعوة لشق قناة في برزخ السويس، والتقى بعض أعضاء هذه الجمعية بمحمد علي في الفيوم سنة (1261هـ= 1845م) وأعلن محمد علي أنه يريد أن ينفذ هذا المشروع بنفسه، وأن تكون القناة ملكًا لمصر مع حيادها التام
دى لسبيس ....والقناة
كان الدبلوماسي الفرنسي فرديناند دي لسيبس رجلاً استعماريًا أراد أن يجعل من مشروع قناة السويس أداة لتمكين فرنسا من احتلال مصر والسيطرة على الشرق، واستطاع أن يحصل من خديوي مصر سعيد باشا على امتياز شق قناة مباشرة تربط البحرين في (8 ربيع الأول 1271هـ= 30 نوفمبر 1854م)، وتضمن هذا الفرمان اثني عشر بندًا كلها من الأعاجيب، منها الحصول على ماء النيل بدون مقابل، والحق في استغلال الشركة صاحبة الامتياز جميع المواد اللازمة لأعمال القناة، مع تعهد الحكومة المصرية بتقديم كل معونة في سبيل تنفيذ المشروع.
أثار مشروع القناة معركة دبلوماسية بين بريطانيا وفرنسا خاضتها لندن في القسطنطينية عاصمة الدولة العثمانية التي كانت لها السيطرة على مصر، ورغم ذلك بدأ دي لسيبس حفر القناة في (22 رمضان 1275هـ= 25 إبريل 1859م)، وافتتحت رسميًا للملاحة في عهد الخديوي إسماعيل في (12 شعبان 1286هـ= 17 نوفمبر 1869م) في احتفالات كبرى حضرها أغلب ملوك وأمراء أوربا، وكانت مدة الامتياز (99) عامًا من تاريخ افتتاح القناة تعود بعد هذه المدة ملكيتها إلى الحكومة المصرية، وكان الفرنسيون يمتلكون معظم أسهمها.
ورد في كتاب "قناة السويس" للدكتور مصطفى الحفناوي أن الأساليب التي استخدمها الخديوي إسماعيل مع الفلاحين المصريين العاملين في الحفر كانت قاسية و"لن يغفر الله له السخرة والسياط".
بريطانيا والقناة
ومنذ ذلك الحين صار الاستيلاء على هذا الطريق المائي الجديد من أغراض السياسة الإنجليزية، خاصة بعد تحقيق ألمانيا وإيطاليا لوحدتهما السياسية ودخولهما ميدان المنافسة الاستعمارية، وما يترتب على ذلك من تأثير على مركز بريطانيا في حوض البحر المتوسط، وكان ذلك كفيلاً بأن تتحول أطماع بريطانيا نحو مصر والقناة باعتبارهما مفتاح السيطرة في البحر المتوسط والمدخل للتوسع الاستعماري في إفريقيا، فضلاً عن أن بقاء القناة تحت السيطرة الفرنسية أمر لم يكن يطمئن إنجلترا في حركتها التجارية أو في الوصول إلى مستعمراتها في الهند.
وفي البداية لم تقبل إنجلترا على استخدام القناة في طريقها إلى الهند إلا في سنة (1306هـ= 1888م) بعد أن فرضت سيطرتها التامة على القناة ومصر، وقبل هذا التاريخ اكتفت بسفينتين كل شهر، وكانت تهدف من وراء ذلك إلى إظهار مشروع القناة في صورة خاسرة، ومضاعفة متاعب الشركة، بل أرادت أن تشتري القناة بأبخس سعر ممكن، وتمكنت من شراء أسهم مصر في القناة في (ذي القعدة 1292هـ= نوفمبر 1875م) واعتبر هذا البيع ضربة موجعة شديدة للمصالح الفرنسية، أما بريطانيا فطالبت بحقها في إدارة القناة.
ولم يمض وقت طويل حتى رأت بريطانيا أن مصالحها التجارية والسياسية مرتبطة بالقناة، لذلك استغلت الأزمة المالية الخانقة التي تعرضت لها مصر في أواخر عهد إسماعيل، وتدخلت في الشؤون السياسية والمالية في البلاد، وهو الأمر الذي انتهى بالاحتلال البريطاني لمصر في (1300هـ= 1882م).